تمثل حرية الصحافة، بالنسبة لفيلاند المناصر للكوزموبوليتية، أغلى ما نملك؛ إذ لا يوجد أساس لثقافتنا الراهنة بدونها. نتمتع اليوم بالوجود البديهي لهذا السيل من المعلومات وتبادلها عبر الوسائل الإعلامية التي لم تعد مقتصرة على الكتاب أو الجريدة.

لا يحدث، في بعض بلدان العالم، تلاعب بهذا المصدر فحسب، بل يحُجر عليه أيضًا في أسوأ الظروف.

تهدف هذه المحاضرة إلى نشر الوعي بقيمة هذه الحرية، ومدى الخطورة التي تتعرض لها أيضًا؛ حريتنا نحن. ليس على الكتُّاب (بالمفهوم الأشمل) نقل المعلومة بكل أمانة فحسب، بل على كل مواطن حر مستنير المطالبة بحقه في معرفة الحقيقة، من أجل الحفاظ على هذه "الثروة الثقافية".

 

كتب كريستوف مارتين فيلاند هذا النص بوصفه مؤسسًا لجريدة "عطارد الألماني" في الفترة من ١٧٨٥ وحتى عام ١٧٨٨، ولكنه يكتسب، على خلفية الأحداث الإعلامية والسياسية الجارية في أنحاء العالم، أهمية خاصة في الوقت الراهن.  


كريستوف مارتين فيلاند

سر اتحاد الكوزموبولوتية، وعن حقوق الكتَّاب وواجباتهم

صحيح أنني مواطن في هذا العالم، وحيد وهامشي، ولا ألعب دورًا، كبيرًا ولا صغيرًا، في المسرحيات السياسية التراجيكوميدية أو الكوميتراجيدية الدائرة على الساحة العالمية، ولكنني نلت شرف كوني إنسانًا، ولذا أنا مضطر، بأي شكل من الأشكال، إلى المشاركة في كل الأمور الإنسانية. لم يتسنَ لي الهروب من المشاهدة المنتبهة والمتعاطفة لأعظم الأعمال الدرامية وأكثرها إثارة، وذلك منذ رفع الستارة في البداية.  

إن مفهومي عن حقوق الفرد وواجباته مفهوم واحد، والفضل في ذلك يعود لانتمائي لهذا الاتحاد.

يقول الكوزموبولوتي إن الطبيعة قد منحت كل فرد المؤهلات الخاصة لتطوره اللاحق. تدفع السياقات به إلى ظروف قد تساعد على هذا التطور أو تعوقه. ولكن يظل مكلفًا بدفع هذا التطور إلى الأمام، والوصول به إلى درجة الكمال. تقع على عاتقه مهمة استكمال ما منحته له الطبيعة ناقصًا، والرقي بمعطياته إلى مستوى المهارة الفنية.

إنها مصلحته الخاصة، ولا يجد المرء صفقة أكثر ربحًا من سعيه للوصول إلى الكمال، بطريقته الخاصة، التي ليس لها حدود.

بما أن المرء لا يملك وحده خطة حياته؛ لأنه مستعد على الدوام للانصياع إلى الدور الذي فرضه عليه الحاكم الأعلى للدنيا، فتقع على عاتقه مهمه أولى؛ هي اكتساب الكفاءة بأكبر قدر ممكن. يطلق الكوزموبوليتيون على الدرجة الأعلى من هذه الكفاءة مصطلح الفضيلة، بقدر اعتماد هذه الفضيلة على التدريب، والجد، والاجتهاد والعزيمة، كما أن مُثُّل هؤلاء هي المعيار الذي يحددون به قيمة الأفراد.

نستنتج، مما سبق، الفارق بين القاطن والمواطن في هذا العالم؛ يصف المصطلح الأول -أيضًا- قائمة الكائنات الحيوانية التي تأتي بعد الإنسان. أما مصطلح مواطن هذا العالم، بالمفهوم الأخص والأرقى للكلمة، فلا يطلق إلا على الشخص الذي تجعله تناقضاته الغالبة وعقائده، باتساقها الخالص مع الطبيعة، شخصًا صالحًا.

يقع المبدأ التالي ضمن الأسس الأولى للاتحاد: يجب، في سياق المنظومة الأخلاقية، خلق كل أشكال التعليم والنمو والتطور، وتطويرها، والوصول بها إلى حالة الكمال بحركة طبيعية سلسلة، لا تلفت الأنظار إليها بين الحين والآخر. جميع الاضطرابات الطارئة التي تخل بتوازن القوى، وكل الوسائل العنيفة الساعية لإنجاز الأمور التي تحتاج وقتًا أطول في الظروف الطبيعية، عبر قفزات تختصر الوقت، وجميع التأثيرات التي تتسم بعنف يحول دون التقدير الصحيح لحجم المجهود المطلوب لإنجاز الأمور، وما يترتب على ذلك من خطورة القيام بعمل يتجاوز المطلوب، باختصار: كل التأثيرات العنيفة لمشاعر الشغف، التي تحكمها تصورات أحادية الجانب ومتطلبات مغالية، حتى وإن سعت في النهاية إلى الخير،  فهي تدمر، في الوقت ذاته، الكثير من هذا الخير، وتتسبب، من خلال الرغبة في التحكم الشامل، في الكثير من الأذى.     

على الرغم من مباركته لكل الخير الموجود بأفضل نية، فإنه لا يمتدح، ولا يستحسن، كل الاجراءات التنظيمية والتصرفات التي تصدر عن القائمين على الدولة. إنه يدرك جيدًا نقاط الضعف، وسوء التصرف، وعدم اتساق الإجراءات ... إلخ، ويقيمها بجدية. باختصار، على الرغم من معرفته بسبل علاج عيوب الدستور، والشرطة، والاقتصاد، ومنظومة إدارة الدولة، جذرية أكانت هذه العيوب أم ثانوية، ولا يتمنى شيئًا أكثر من رؤية عملية العلاج تتحقق أمام عينيه؛ فإنه يمكن الاعتماد بكل ثقة على أنه لن يزعج الهدوء العام أبدًا، لأسباب؛ شخصية كانت أم وطنية، ولن يلجأ كذلك، من أجل تحسين الأوضاع، إلى مناقضة للدستور، ولن يسلك سبلًا عنيفة. لم يشارك الكوزموبوليتي أبدًا عن عمد في مؤامرة، أو فتنة، أو إثارة حرب أهلية، كما أنه لم يبارك أبدًا هذه الوسائل لإصلاح العالم، أو ما شابهها، ناهيك عن النصح بها، أو تبريرها أمام الرأي العام. الكوزموبوليتي مواطن هادئ بفضل التزامات الاتحاد الجوهرية، وإن لم يرضَ مطلقًا عن الأوضاع الراهنة العامة.     

جميع القوانين، التي تُظهر الحكمة والعدل والمنفعة العامة، يلتزم بها الكوزموبوليتي في الدولة التي يعيش فيها، بوصفه مواطنًا في هذا العالم، يخضع نفسه لباقي الأمور بحكم الضرورة! يقصد الخير لقومه، ويقصد الخير لسائر البشر أيضًا، وهو يمتنع عن تحقيق الرخاء والشهرة لوطنه بالظلم المتعمد لدول أخرى وقهرها. يقف الكوزموبوليتيون على مسافة واحدة من التطرف في الاتجاهين: إما منح الإنسان الدور الأول في الكون، أو رؤية وجوده صدفة بحتة بلا أهمية، حلمًا بلا هدف، ولا معنى، ولا سياق. ما يقنعهم هو ميزة العقل، أن الإنسان، بصرف النظر عن صغر حجمه الظاهري، ليس مجرد مادة منظمة دخلتها الحياة، أو أداة عمياء لقوى غريبة عنه، بل هو كائن مفكر وله إرادة، وقوة مؤثرة في حد ذاته.

تعد المقاومة من واجبات أعضاء الاتحاد، طالما أنها تسلك القنوات الشرعية، ولكن لا يُسمح لهم في هذا السياق إلا بسلاح واحد، ألا وهو سلاح العقل، كما يجب عليهم في هذا النوع من الحروب، بما يشمل وسائل الدفاع والهجوم، إظهار العقل والحكمة والصبر، وسعة الصدر والإصرار، بالقدر المتاح لهم. حينما يقومون بكل هذا، يكونون قد قاموا بواجبهم تجاه الاتحاد الكوزموبوليتي. أما لحظة رؤيتهم للرؤوس المشتعلة، القائدة لمجموعات الأفضل فكرًا ومجموعات المقهورين، وهي تمضي في هذا المسار، الذي سيترتب عليه حتمًا تدمير عنيف للدولة، وحينما يدركون أيضًا أن ثمن الإصلاحات المستهدفة أغلى بكثير من قيمته، وسيأتي على حساب سعادة مئات الآلاف ورخائهم وحياتهم، حينها ينسحبون من الساحة. حينما لا يُسمع صوت العقل المطالب بالوسطية في كل الأمور، يفضلون الابتعاد عن مجالات التأثير، بدلًا من المخاطرة بجلب الأضرار دون قصد. لا يواصلون ممارسة أنشطتهم قبل حلول الوقت المناسب لإعادة بناء، وفق مخطط أفضل، كل ما تعرض للتدمير، بأيدي الحركات المتوحشة لروح الحزب المتطرف، وبسبب الحرب الغاضبة الدائرة بين السلطة المتعسفة والبشرية المهانة الساعية إلى التحرر والانتقام.      

يحمل الكوزموبوليتيون لقب مواطني هذا العالم بمعناه الحقيقي الصريح؛ إذ ينظرون إلى جميع شعوب هذه الأرض بوصفها فروعًا لعائلة واحدة، كما ينظرون للكون بوصفه دولة، ويتشاركون مع العديد من الكائنات العاقلة في مواطنته. هدفهم، في سياق قوانين الطبيعة العامة، هو دعم التكامل المطلق، من خلال سعي كل فرد بأسلوبه الخاص إلى حالة من الرخاء. يكمن السر كله في حالة من القرابة الطبيعية والمحبة التي تتجلى في الكون بأسره بين الكائنات المتشابهة؛ إذ يعقد الصدق وسماحة القلب وصفاؤه رباطًا روحيًّا بين البشر النبلاء.

لا أعرف رباطًا أكثر قوة يخلق جماعة، لتتفوق في نظامها وانسجامها على أي مجتمع بشري آخر.

"هدف الاتحاد: أن يبذل كلٌّ ما في وسعه، دون ارتكاب ويلات أخرى، من أجل تقليل إجمالي الشرور التي تصيب البشرية، والعمل بما في مقدوره على زيادة الخير في الدنيا."  

يزعم الكوزموبوليتيون أنه لا يوجد سوى نظام وحيد للحكم لا يجد اعتراضًا؛ أي حكم العقل. إنه يتحقق في الوضع التالي: حينما يَحكم شعبًا عاقلًا ولاة أمر عقلاء وقوانين عاقلة. لا يستلزم الأمر التذكير هنا بأن كلمة عاقل مقصودة بمدلولها الفعلي؛ إذ تصف ممارسة العقل الفعلية والكاملة تعبيرًا عن التحكم في الجانب الحيواني للطبيعة البشرية.

في الأزمنة السابقة، التي توصف عن حق بأنها مرحلة طفولة هذا العالم، كان تأثير العقل في الأغلب تأثيرًا غريزيًّا. كانت خبرة البشر مثل خبرة الأطفال، تتسم بالحسية، والحيوية، والاستهتار، والاضطراب، لا يهتمون إلا باللحظة الراهنة، ولا يتنبؤون إلا بالقليل من المستقبل، من واقع التوابع الطبيعية والبطيئة للحاضر.  

عرفت قلة من الشعوب القديمة تقدير قيمة الحرية تقديرًا مناسبًا، كما عرفت قلة قليلة ربط الحرية بالنظام البرجوازي، وكذلك ربط فنون الحرب بفنون السلام.

نتج عن الأسباب المعروفة هذا التأثير المعروف أيضًا، على الرغم من التقدم السريع للثقافة في مجالات الفنون والعلوم المختلفة، بفضل الابتداع، والجد، والمثابرة العنيدة، وروح التنافس، ويبقى الفن الأرقى في كل الفنون، الفن الملكي؛ أي سعي القوانين وإدارة الحكم إلي إسعاد الشعوب، في حالة من التأخر النسبي الشديد.    

لا يزال الجزء الأكبر والأجمل من أوروبا واقعًا تحت ضغوط تخنق أرقى البشرية. إنها بقايا لدستور وحشي، وجهل وخطايا، حكمت ألفية سادتها الفظاظة والظلمات. في بعض من الممالك القوية، لم تتعرض حقوق العرش للتحليل بعد، كما لم تتعرض للتقييم حتى تتسق مع فقرة الدستور الأولى التي تحكم جميع المجتمعات البرجوازية. لا تزال هناك دول لا يتحكم فيها العقل العام في موارد القوانين، بل الفهم الأحمق، والرغبة المتقلبة لفرد وحيد، أو قلة من الأفراد يمارسون سلطاته.  

"...لعل الوضع الأسوأ هو أننا نستميت في الكتابة، دون أن يتخلص العالم ولو من وغد وحيد."    

يستمر، في معظم الدول، تَعَرُّض سيادة القانون للإهانة من خلال قوانين وحشية، لا تأتي في السياق المناسب، ولا تتسق مع الزمن والأوضاع المعاصرة. ما زال، في الكثير من الدول، مصير تأمين الملكية والكرامة والحرية وحياة المواطن غير معلوم. هذا ما يحدث في أوروبا! في قرن تبوأت فيه الفنون والعلوم والتذوق والتنوير والتهذيب، في وقت قصير نسبيًا، أرقى مكانة، وبات يفصلها ارتفاع مثير للدوار عن أحوال القرون الماضية. يبدو، إن لم تخب ظنونا، أن أوروبا تقترب في الوقت الحالي، ولحسن الحظ، في هذا المجال الهام والجوهري من ثورة حميدة.     

إنها ثورة لم تخرج من رحم سخط عشوائي أو حرب أهلية، بل نتجت عن إصرار هادئ، لا يتزعزع، مثابر، مع ممارسة المقاومة المتسقة مع أداء الواجب –لا تأتي من الصراع الفاسد بين العاطفة هنا وهناك، أو العنف هنا وهناك، بل من تأثير العقل الحاكم، بنعومة، وإقناع، وقوة لا تقاوم. ستكون باختصار ثورة نابعة من عمل الخير فقط، تُعَّلِم البشر مصالحهم الفعلية، حقوقهم وواجباتهم، وسبب وجودهم، فضلًا عن الوسائل الوحيدة الأكيدة للوصول إلى هذه المعرفة، وذلك دون أن تغرق أوروبا في دماء البشر، أو أن تشتعل فيها النيران.         

يتضح، مما سبق، أن الكوزموبوليتيين ينظرون إلى أشكال الحكم الحالية بوصفها الهيكل الذي يقوم عليه "معبد السعادة العامة"، الذي شارك البشر في بنائه على مدار القرون الماضية. أما الحكم الاستبدادي فهو، بحسب مفهومهم، نمط حكم وحشي، يحتاج، كي يستمر طويلًا، ظروفًا وأوضاعًا، لم يعد حدوثها واردًا لقوميات أوروبا المستنيرة. بشكل عام، لم يكن الحكم الاستبدادي في هذا الجزء من العالم معروفًا، حتى في الفترات التي سبقت حقبة الثقافة والتنوير. كانت الحرية على مدار الألفيات السابقة هي العنصر المكون للسكان، يستوي في ذلك من يتسمون بالفظاظة والمسيسون والمثقفون.

ما يجب القيام به، على عكس قوانين العقل العامة، وقوانين الإنسانية الأساسية: لا تنازل، ولا تقادم، ولا تفويت لأي فرصة تسمح بالتفعيل وإثارة القضية. كل المؤسسين لممالك أوروبا اليوم كانوا قبل ذلك قادة لمجموعة من البشر الأحرار.   

المطلب الأول للبشر، أيًّا كان دستورهم الحاكم، هو مطلب سينازعهم فيه فقط الحاكم المستبد المعلن عن استبداده: حق الوجود الإنساني – ولن يكونوا بشرًا طالما أنهم عبيد.

بما أن الدستور ونظام حكم للشعوب –في أقصى أشكالهما عقلًا – يقتربان الآن بخطوات بطيئة، ولكن ثابتة، فلا يمكن العمل على إسراعها إلا من خلال النشر المتاح لثقافة العقل، والحقائق الجوهرية، والتعريف العام بكل الوقائع، والمراقبات والاكتشافات، والدراسات، ومقترحات الإصلاح، وكذلك التعريف بالتحذيرات من الخسائر، ونشر كل ما يفيد المجتمعات، والدول، والجنس البشري عمومًا. ينظر الكوزموبوليتيون إلى حرية الصحافة، التي لا يفلح شيء مما سبق بدونها، بوصفها المقدس الحقيقي للبشرية؛ إذ يعتمد الأمل في مستقبل أفضل على وجودها، ويترتب على فقدانها سلسلة ممتدة ومفزعة من المصائب غير المتوقعة.

لدينا كم هائل من الكتابات التي يحررها رحالة، بعد تجميع ملاحظاتهم وأخبارهم في خطابات موجهة إلى الأصدقاء، وإلى جمهور القراء بعد طباعتها. بما أن رغبة عالم القراء الشغوف بهذا النوع من الكتابات –سواء للكتَّاب الرحالة أو المتجولين المُحرِرين للخطابات– يزداد يومًا بعد يوم، قد يستفيد البعض من معيار نقدمه لهم، يقيس في الحالات الواقعة بأمانة مدى صلاحيات هؤلاء الكتَّاب، ومدى حريتهم التي تسمح بنشر ملاحظاتهم وأخبارهم وأحكامهم.

يبدو لي أن هذا المعيار يكمن في السلسلة التالية من الحقائق. أعبر عنها بثقة بوصفها حقائق؛ لأنني لست الوحيد المقتنع بها، بل أؤمن أنها واضحة بوصفها حقيقة لكل عقل مرتب بدرجة متوسطة، وقادر على بعض التفكير العميق. 

حرية الصحافة هي شأن يخص الجنس البشري بأكمله، وتقع في نطاق مصالحه. ندين لها أولًا بفضل وصول معظم شعوب أوروبا إلى الدرجة الحالية من الثقافة والتنوير. إن سُلِبَت مِنَّا هذه الحرية، سيختفي النور الذي يسعدنا في الوقت الحاضر. سيتحول الجهل سريعًا إلى غباء، وسيسلمنا الغباء إلى الخرافات والاستبداد مرة أخرى. ستغرق الشعوب، مرة أخرى، في وحشية العصور المظلمة السابقة، ومن يجرؤ حينها على قول الحقيقة، التي يهتم الطغاة بحجبها عن البشرية، سيُتهم حينها بالكفر وإثارة فتنة، وسيعاقب بوصفه مجرمًا. حرية الصحافة هي حق للكتّاب؛ لأنها، إن أردنا قول ذلك، حق للقوميات الممارسة للسياسة. السبب البسيط لهذا الحق يرجع إلى أن البشر، بوصفهم كائنات عقلانية، لا يهتمون بشيء أكثر من الوصول إلى المعرفة الحقة عن كل شيء، المعرفة التي من شأنها رفعهم إلى درجة من الكمال.

العلوم للعقل البشري مثل النور لعيوننا، ولذلك لا يمكن، ولا يصح، وضع حدود لها، فيما عدا الحدود التي فرضتها الطبيعة نفسها علينا. إن أكثر العلوم ضرورة ومنفعة، وأكثرهم استيعابًا لسائر العلوم، هي العلوم المتناولة للبشر.

الدراسة الخاصة بالبشرية هي دراسة الإنسان!

إنها مهمة ستعكف البشرية على إنجازها الكامل لقرون قادمة. محور دراسة الإنسان هو التوسع في مجال هذه المهمة، ودعمها، وإحراز التقدم في القيام بها.

لإخراج الطاقات الممكنة في الإنسان، يجب علينا فهم كينونته الحقة، وفهم ما أنجزه بالفعل. لتحسين أحواله وإعانته على مواجهة ضعفه، علينا، أولًا، معرفة ما ينقصه، وأسباب هذا النقصان.

إذًا، معرفة الإنسان الحقة هي بالأساس معرفة تاريخية. إن تاريخ الشعوب يتناول حالتهم في الماضي والحاضر، رابطًا بين الحقائق والظروف، ومستعرضًا التأثير أو النجاح الناتج عن سياق ما وأسبابه. ليست فلسفة تاريخ البشرية سوى استعراض لما تعرض له البشر، وما يتعرضون له من أحداث مستمرة. إنها تستعرض -أيضًا- حقيقة مستمرة، لا ندركها إلا في هذا السياق، من خلال الرؤية المنتبهة، ومن خلال الملاحظات التي يبديها من لديهم فرصة أكبر لرؤية ما يجب رؤيته للآخرين.

يجب الحكم من هذا المنظور على جميع الإسهامات في مجالات علوم الأرض والشعوب ومعارف البشر، التي يقدمها رجال عقلاء وأصحاب حكمة، من البحارة والرحالة والمشاة، من العلماء وغير العلماء (حتى غير العلماء قد يملكون القدرة على الملاحظة، ويرون بعيون أفضل من العلماء المتخصصين).

ندرك من هذا المنظور قيمتهم، وأن الجنس البشري؛ أي كل شعب، وكل جهاز دولة، وكل فرد، سيهتم بنشر هذه الإسهامات بكثرة في المجلات العامة المهتمة بالمعارف الإنسانية.

قد يرى شاهد عيان، دون أن يقصد، المشهد بشكل خاطئ!

حينما ننسب قولًا لشخص نثق فيه، ربما نروي الأمور رواية خاطئة. حتى المراقب الأكثر انتباهًا، ثاقب الفكر، معرض، مثل سائر البشر، للوقوع في الخطأ، وقد يسقط حادث هام سهوًا من روايته. من الصعب أن تخلو جميع الكتابات التاريخية، عن الشعوب والدول والتقاليد المعاصرة، من الأخطاء، حتى مع النوايا الخالصة لقول الحقيقة. من الوارد -أيضًا- أن نجد رؤية خاطئة، أو حكمًا خاطئًا، ينتجان عن قلة خبرة، أو عن تصورات وميول مبهمة. ولكن الأمر المناقض للعقل هو أن نستنتج من ذلك أنه لا يجب نشر كتابات قد تفيد العالم.

يترتب على ذلك أن الشخص الذي يمتلك معلومات أفضل، أو الذي يظن نفسه قادرًا على كشف أخطاء كاتب ما وتصحيحها، لا يملك صلاحيات القيام بذلك فحسب، بل هو واجب عليه تجاه خدمة الإنسانية.

بشكل خاص، يجب على كل شعب كبير أن يهتم بمعرفة وضعه القائم بأقصى دقة ممكنة، ينطبق ذلك بامتياز على جهاز دولتنا، الذي يتآلف، بشكل عشوائي غير منظم، من أجزاء متنوعة وغير متطابقة.

إن أي مقالة، ولو بسيطة، تعرض رؤيتها الخاصة عن طبيعة اقتصاد الدولة، والشرطة، والدستور المدني والعسكري، وعن الدين، والتقاليد، والتربية العامة، والعلوم، والفنون، والتجارة، والزراعة إلخ، وعن درجة الثقافة، والتنوير، ونشر الإنسانية، والسعي إلى الأفضل، تستحق كل مقالة من هذا النوع التقدير والإعراب عن شكرنا.

أول الصفات وأكثرها أهمية، بالنسبة للكاتب الذي يقدم مقالة من منظوره الخاص، أن تكون لديه الرغبة الصادقة في قول الحقيقة، وبالتالي، ألا يسمح بتأثير رأي مسبق، أو مصلحة خاصة عمدًا في أخباره وملاحظاته.

واجبه الأول هو الصدق والحيادية، وبما أننا نملك الحق في القيام بكل ما هو مطلوب للوفاء بواجباتنا، فإن حق الحرية مكفول لكل كاتب من هذا الفصيل. يجب أن تكون لديه الرغبة في قول الحقيقة، وأن يكون ذلك مكفولًا له أيضًا. 

وبالتالي، يحق لأي كاتب أن يكتب كل شيء عن الشعب الذي يخبرنا عنه، المحاسن والمثالب، ما يستحق الثناء وما يستحق اللوم. نحن لا نخدم العالم برسم صورة غير صادقة، تعتم على الأخطاء، أو تزور الحقيقة بوسائل تجميلية منافقة!

لا يصح أن يشعر شخص ما بالإهانة، طالما أننا نصفه كما هو! إن الأدب، الذي يمنعنا من مواجهة شخص ما بأخطائه في العلن، ليس ملزمًا للكاتب الذي يتحدث عن البشر في العموم، أو القوميات والشعوب، صغرت أو كبرت.

إن مطالبة قوم بتقييمه تقييمًا مثاليًّا ومتكاملًا يعد مطلبًا غير لائق ومضحكًا أمام العالم.

يجب أن يتسم هذا القوم بالكمال الفعلي؛ حتى لا يجد مراقب خبير سببًا لانتقاده. الحكام أصحاب الرؤية الصحيحة عن كرامتهم ووظيفتهم يحتقرون النفاق، ويدركون مؤكدًا صدق من يقول لهم الحقيقة المرَّة. 

"إن أقصى أماني أفضل الأمراء أن يكون الإنسان الأفضل وسط شعبه."  

شخص كهذا لن يجد غضاضة، بكل تأكيد، في الاستفادة من الرأي المتواضع الذي سيقال له عن التقييم الصريح له من قبل الأجيال التالية، والذي سيأتي في وقت لاحق.  

إن استمرت البشرية في الحفاظ على عقولها، سيظل تأثير روسو وفولتير وغيرهم على المحيط الثقافي قائمًا، إنهم مبدعو هذا القرن وحكامه الفعليون.

احترام قوم أو مجتمع في هذه الحالة يتطلب الحديث عن جوانبه الخفية بعبارات محترمة، دون مبالغة، أو مرارة، أو تبجح، مع إثبات الحيادية بالذكر العادل لمميزات هذا القوم وما يستحق من صفاته الثناء.

معرفة مميزات كل قوم وخصائصه مطلوب من أجل الوصول إلى المعرفة الصحيحة عن القوميات والعصور.

كما تتجلى هذه الخصائص أكثر وضوحًا في العيوب عنها في حالات الكمال.

تكون أخطاؤنا، في كثير من الأحيان، ناتجة عن المبالغة في صفات يكون الاعتدال فيها محمودًا؛ الزينة، مثلًا، إفراط في التأنق. التعليق على هذه الأخطاء لا يعني الإهانة، بل هي لفتة تستحق الشكر، تشير إلى الطريق لنكون بأسلوبنا الأفضل وجديرين بالثناء.  

المراقب المحايد، الذي أهدته الطبيعة الفطنة وحيوية الروح، يرى، أينما يوجه نظره، رؤية طبيعية لما يفعله البشر وما يتركونه، ما يميزهم، وكذلك عيوبهم وحماقاتهم. لا مفر من الضحك أو الابتسامة حينما نجد أمرًا مضحكًا، دون الرغبة في الاستهزاء المتعمد.    

"طوبى للبلد التي لا تعيبها سوى أمور تافهة."

حينما ينتقل شخص من دولة كبيرة إلى أخرى، حيث يختلف الدستور، وتختلف الطباع والعادات القومية، من دولة عسكرية إلى دولة يعتمد رخاؤها على السلام وفنون السلام مثلًا، فإن ذلك يفرض وضعًا يلاحظ من خلاله جميع الفروق بين الدولتين؛ لأنها تلفت نظره بالشكل الأقوى. لذلك، فمن الطبيعي أنه يستمتع بعقد المقارنات بين مميزات قوم ومميزات قوم آخر.

لا يوجد موضوع لا يمكن تناوله علميًا، كما لا توجد عقيدة لا يُسمح للعقل بتناولها ليعرف مدى مصداقيتها، وبالتالي، لا توجد أيضًا حقيقة تاريخية أو عملية يُسمح "بمصادرتها"، أو "منعها عن التداول". ليس من المنطق تحويل الأمور الجلية أمام العالم إلى أسرار دولة، أو توجيه اللوم لمن يقول للعالم بأسره ما يراه ويسمعه ويشعر به مئات الآلاف من البشر.  

ما يميز اتحاد الكوزموبوليتيين عن غيره من الاتحادات السرية أنهم لا يخفون سرًا، ولا يخفون -أيضًا- مبادئهم وقناعاتهم.

يستطيع العالم معرفة أفكارهم، وأنشطتهم، والسبل التي يسلكونها.

ما الحكمة التي نتوقعها من رجال، تعبر وجوههم عن الجدية، وهم يلعبون بالعرائس، ويلعبون لعبة الاستغماية، أو يخفون الدبابيس؟ الأسباب الظاهرية، التي تدعي ضرورة لوضع قيود تعسفية على حرية الصحافة، مخالفة للمنطق أيضًا. لدينا من الحجج ما يثبت، دون شك، أن حرية الصحافة ليس عليها قيود مخالفة لقيود القانون العام، سواء المدني أو قانون العقوبات، المفروض على أي كاتب، أو تاجر كتب، أو ناشر.

 إنها تتعلق بكتابات يكون نشرها في أي دولة سياسية، أيًا كان حجم الحرية الشخصية فيها، يعادل جريمة، ويكون بالفعل كذلك بحسب طبيعته!!!

وهذا يعني أن جميع الكتابات، التي تحتوي على إهانات فعلية لأفراد معروفين أو بذكر أسمائهم صراحة، ممنوعة في القوانين البرجوازية ومستنكرة.     

الكتابات التي تحرض فعليًا على التمرد والسخط الموجه ضد السلطات الشرعية.

الكتابات الموجهة فعليًا ضد الدستور الشرعي للدولة.

الكتابات التي تسعى فعليًا إلى هدم الأديان، والأخلاق، والنظام البرجوازي. تستحق هذه الكتابات في كل دولة عقابًا يعادل عقاب الخيانة العظمى، والسرقة، والاغتيال.

ولكن كلمة مباشرة أو فعلية تساوي أكثر من كونها كلمة فارغة. إنها ذات أهمية حيوية، لدرجة أنها وحدها تحدد مدى العقوبة التي تقع على المقالة المتهمة. إن سمحنا لأي رقيب مطلوب لتقييم كتاب، أو لأي قاضٍ مدني أن يعتمد في حكمه على تصوراته الخاصة، أو رأيه الخاص، أو أحكامه المسبقة، أو درجة فهمه أو عدم فهمه، أو درجه خبرته أو جهله، أو مشاعره وذوقه الخاص، إن سمحنا بذلك، فأي كتاب سيأمن اللعنة بعد ذلك؟

ألا نعرف، من خبراتنا، أن الدول التي يسودها هذا النوع من الرقابة العشوائية تضع أفضل الكتب على قائمة الممنوعات.

(إضافة)

هل فكرتم من قبل فيما قد يحدث لو فرضنا الرقابة على العروض المسرحية؟ كم مسرحية كانت ستمنع من العرض في هذه الحالة؟

موت دانتون، اسم الوردة، دون كارلوس، فيلهيلم تيل، ريتشارد الثالث، سيدة في منصب البابا، النائب، استيقاظ الربيع، اللصوص، اليوم العظيم، المدعي الرسمي، ماكبث، مارات ساد، جحيم في إنجولشتاد، أرتورو أوي، بيدرمان ومضرمي النار، يوليوس قيصر، ميخائيل كولهاز، الآيات الشيطانية، الثورة لم تنتهِ بعد، القارورة المكسورة...   

ولنفترض أننا تركنا لأحد القضاة أو لرقيب ما على الكتب مهمة كشف الكتابات التي تعد جريمة... لا يمكن إنكار أنه لا يقدر إلا على منع الكتب التي يقترف كاتبها جريمة.

لا يمكن لأي رقيب، بخلاف الجمهور، الحكم على مضمون كتاب: هل يعد قديمًا أم جديدًا، هل يستحق الاهتمام أم أن موضوعه تافه، هل هو مفيد أم ضار، وهل حجج كاتبه جيدة أم سيئة.

من الصعب اضطهاد كتاب للأسباب السابقة، دون المساس بالقوانين الحاكمة لجمهورية العلماء. تعد العلوم والأدب وفن طباعة الكتب أرقى الاختراعات وأكثرها فائدة، منذ اختراع فن الكتابة بالحروف الأبجدية. إنها ليست ملكًا لهذه الدولة أو ذاك، ولكنها ملك للجنس البشري كله.

طوبى للشعب الذي يقدر قيمتها، يستوعبها ويحافظ عليها، يشجعها ويحميها، ويترك لها الحياة والإبداع بكامل الحرية، التي تساوي كيانها.  

وبما أنه لا يحق لأي محكمة بشرية اتخاذ قرار، يعتمد على تحكمها في مساحة الضوء الذي تسلطه لنا على الوقائع؛ سيظل حق الجميع، من سقراط إلى كانط، أو إلى أي خياط أو صانع أحذية متنور، مكفولًا دون استثناء لتنوير البشر، طالما أن روحه، الطيبة أو الشريرة تدفعه إلى ذلك.

مَن يحق له تنوير البشرية؟

مَن هو قادر على ذلك!

يقتضي التنوير معرفة فائقة للتمييز بين الحق والخطيئة في كل زمان ومكان. تنصب معرفتنا على أمور حدثت، أو تصورات، أو مصطلحات، أو أحكام وآراء. يجري الكشف عن أحداث وقعت، حينما ينخرط الباحث المحايد في الدراسة الوافية لملابسات هذه الأحداث. ليس هناك سبيل آخر للحد من الأخطاء والأوهام الضارة التي أظلمت العقل الإنساني.

ما العواقب التي تثبت حقيقة التنوير؟

حينما يزيد عدد البشر المفكرين، والباحثين، والشغوفين بالنور، خاصة داخل فئة البشر المستفيدة بشكل أكبر من عدم التنوير.

لا أحبذ سوء الظن في البشر من حولي؛ ولكنني أعترف أنني أشك، مرغمًا، في حسن نوايا السائلين المهتمين بـسلامة وسائل التنوير. هل تظنون، مثلًا، أن هناك وقائع محترمة لا تتحمل التنوير؟ لا، لا نريد ظن السوء في عقولهم.

ولكن ربما تقولون: هناك حالات يضر التنوير الزائد بها، ويجب تنويرها بحذر وعلى مراحل.

حسنًا، فيما يتعلق بالتنوير الذي يأتي بعد تمييز الحق والخطأ، لا ينطبق ذلك على ألمانيا؛ لأن شعبنا ليس أعمى لهذه الدرجة. إنه استهزاء بنا، وعار علينا، بعد اعتيادنا التدريجي لقدر من النور على مدار ثلاثمائة عام، ألا نستطيع تحمل شروق الشمس الساطع.

من الواضح أن هذه هي حجج السادة الأفاضل، الذين يملكون أسبابًا خاصة لبقاء العالم من حولهم مظلمًا. قولوا لي: ألست على حق؟

ماذا تظن أيها الجار، صاحب الأذن الطويلة؟

أيًا كانت زاوية نظرتنا للقضية، سنجد أن درجة الخطورة على المجتمع البشري أقل بكثير عن الحالة التي يكون فيها تنوير عقول البشر وأفعالهم حِكرًا أو أمرًا داخليًّا بحتًا.

للشعب الألماني، دون غيره، أسباب خاصة تدفعه إلى حماية حرية الصحافة. لقد بدأت طباعة الحروف على يد هذا الشعب، ونجح رجالها الشجعان، الذين استخدموا هذا الاختراع بحرية، في تحرير نصف شعوب أوروبا من قهر البلاط الروماني، فضلًا عن إثبات حقوق العقل في مواجهة الأحكام المسبقة القديمة، وتحرير الفكر المستقل الكاشف للأمور من غفلته التي دامت آلاف السنين، وبدأ بنشر نوره الطيب في جميع مجالات المعرفة الإنسانية.

إنه أمر مخجل إن تراجعنا عن أعمال الخير، وأوقفنا تطور العلم وسط سيره المتحمس، وإن وضعنا حدودًا غير طبيعية للتنوير، الذي ندين له بكثير من الخير الذي سيعم علينا وعلى أبنائنا أيضًا؛ إذ يعد التنوير، مثل الروح البشرية، بلا حدود، والبشرية قادرة بمساعدتها على الوصول إلى حالة الكمال، بل ويجب عليها ذلك. مفهومي للحرية أنها حق مكفول للبشر جميعًا: إنها التحرر من العنف المتعسف والقهر.

جميع أجهزة الدولة ملتزمة على السواء بطاعة قوانين العقل.

الاستخدام غير المشروط لقوانا، دون أن يعوقنا أحد.

حرية الفكر، حرية الصحافة، حرية الضمير في كل شيء يتعلق بالإيمان بكائن أعلى وتقديسه. لن يستطيع الإنسان، بوصفه كائنًا عاقلًا، أن يحقق أسباب وجوده بدون هذه الحرية.

إنها حرية لا يجب أن يكفلها له الدستور فحسب، بل يجب أن تعده تربيته لاستخدامها الصحيح.

كل ما نملك معرفته، من حقنا أن نعرفه.

النهاية

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مقدمة رئيس التحرير، جيرت ميجرلة، عن محاضرة فيلاند "الصحافة! الحرية؟"

السيدات والسادة،

١٥ قتيلًا من الصحفيين، ١٦٠ سجينًا من الصحفيين والناشطين على مواقع الإنترنت، ومن المواطنين الصحفيين – إنها حصيلة مفزعة يعرضها "مؤشر حرية الصحافة" التابع لاتحاد "صحفيون بلا حدود" لعام ٢٠١٥، بعد مرور شهرين ونصف فقط.

يُقتل البشر؛ لأنهم عهدوا على أنفسهم الحرب من أجل حرية الأفكار، ومدنا بالمعلومات حول الأحداث الجارية في العالم، وتصنيفها أو التعليق عليها، بأساليب ساخرة أيضًا.

ثمانية من الصحفيين القتلى، البالغ عددهم خمسة عشر، كانوا يعملون لصالح الجريدة الفرنسية الساخرة "شارلي إبدو". أفزع الهجوم، الذي نفذه عدد من الإرهابيين الإسلامويين يوم ٧ يناير على مكاتب رئاسة التحرير في باريس، العالم، وأدى إلى إطلاق صرخة. 

أظهر الهجوم -أيضًا- هشاشة حق ترسخ داخل دساتيرنا الغربية بوصفه حقًا أساسيًّا؛ أي حرية الصحافة. إنه حق أساسي، وصار يمثل للعديد من الشباب أمرًا بديهيًّا، لا يفكرون فيه كثيرًا، ولكن هجوم باريس أظهر أنه يجب، مع كل يوم جديد، الصراع من أجل هذا الحق، ومن أجل الدفاع عنه.  

حينما سألتني كورنيليا سيكورا، في الخريف الماضي، عن استعدادي، بوصفي رئيس تحرير إحدى الجرائد، عن إمكانية إلقائي بعض الكلمات بمناسبة هذه المحاضرة، لم يدرك كلانا أن قضية حرية الصحافة ستُثار من جديد على هذا النحو الدرامي.

ربما كنا سنكتفي بأمسية جميلة، نسترخي فيها، ونستمع خلالها إلى أفكار فيلاند الحكيمة حول الصحافة وحرية الرأي، ونهدئ من روعنا، زاعمين أن القضية، التي حارب من أجلها مع نهاية القرن الثامن عشر، صارت، بالنسبة لنا، في القرن الواحد العشرين، أمرًا بديهيًا.

أظهرت الأسابيع الماضية، منذ بداية العام، أن الأمر ليس كذلك. إن حقوق الكتَّاب وواجباتهم، التي سعى الكوزموبوليتي كريستوف مارتين فيلاند إلى صياغتها، لا تزال حاضرة، تمامًا مثلما كانت حاضرة وقت نشأتها في عصر التنوير.

يرى فيلاند حرية الصحافة بوصفها حقًا إنسانيًا. الإنسان كائن عقلاني، وله الحق في المعرفة والحقيقة. كلاهما أساس، تقوم عليه ثقافة التنوير لمعظم الشعوب الأوروبية. لولا هذه الحرية، لانتشر الجهل، والغباء، والشعوذة، والاستبداد مرة أخرى. كتب فيلاند، في عام ١٧٨٥، ما يفيد هذا المضمون في جريدة "عطارد الألمانية"، التي ترأس تحريرها، وكانت أكثر جرائد القرن الثامن عشر عمرًا وطباعة.

لم يفعل ذلك دون سبب. وقع فيلاند نفسه ضحية للرقابة وحرق الكتب. كثير مما تعلمناه، نحن رؤساء التحرير والصحفيون في دراستنا عن مبادئ عملنا اليوم، منحنا الزميل فيلاند إياه منذ ٢٣٠ عامًا.

على الكاتب تناول الأحداث والموضوعات من زوايا مختلفة؛ ليتجنب عرضًا أحادي الجانب، كما أن عليه إبداء رغبته الصادقة في قول الحقيقة. يقصد فيلاند بذلك وجوب امتناع الكاتب عن أي رغبة عاطفية، ورأي مسبق، وأهداف شخصية. الصدق وعدم الانحياز هما الواجب الأكبر.

ولكنه يصوغ -أيضًا- القيود. لا يسمح للصحافة، أو حرية الرأي، بإهانة أي شخص، أو الهجوم على السلطات العليا والدعوة إلى الانقلاب.

قد يبدو الأمر الأخير، باستعراض الماضي، وبالمعرفة التي نملكها من القرن الماضي، محل شك. كان الستار الحديدي في هذه الحالة سيظل يقسم أوروبا. توجيه النقد إلى النظم القائمة –من قبل الصحافة أيضًا– له الفضل في أننا نعيش اليوم في أوروبا الحرة والمستنيرة.

إن مطالبة فيلاند الصحافة وحرية الرأي بعدم إهانة أي شخص تبدو اليوم لي قضية شديدة المعاصرة. تتوارى اليوم، في عالم الإعلام سريع الإيقاع، أهمية الموضوع نفسه خلف الشخص. شعار صناع الإعلام اليوم أن القصص المتصلة بالبشر هي صاحبة الفرصة الأكبر للقراءة والمشاهدة والاستماع. لست في حاجة أن أحكي لكم عن المبالغات التي تفضلها بعض وسائل الإعلام. يجري اليوم، وبواسطة شبكة المعلومات ومواقع التواصل الاجتماعي، التشنيع بأفراد في وقت قصير للغاية، لا يسمح برد الفعل في الوقت المناسب. صار، في عصر الاتصال الرقمي، كل مواطن صحفيًا، وبإمكانه صنع ضحاياه في الإعلام، مع عدم الإفصاح عن هويته في أسوأ الظروف. صار نشر الادعاءات والاتهامات خارج السيطرة، وغير قابل للمراجعة، مثلما كان ممكنًا في زمن الجريدة المطبوعة "فقط"؛ إذ كان تأثيرها محدودًا. ما يُكتب اليوم قابل للاستدعاء باستمرار –وذلك على مستوى العالم– ومن الصعب حذفه.  

لا يكلف بعض العاملين في حقل الإعلام أنفسهم عناء التحريات بإخلاص، بل يأخذون المعلومات التي تقدم إليهم رقميًا بوصفها مسلمات، دون التأكد من صحتها. لم يعد الوقت متاحًا للتأكد من حقيقة المزاعم المطروحة، في ظل التسابق على سرعة نشر الخبر وإطلاق الصوت الأعلى. يكون الواقع، في أسوأ الظروف، أقل إبهارًا من الفضيحة المفترضة، الشعار المرفوع هو: لن أفسد مقالتي الجميلة بالتحريات.   

إلى جانب الحاجة إلى حرية الصحافة، التي تقاوم الرقابة والتأثير عليها، هناك -أيضًا- حاجة إلى الصحافة المسؤولة أكثر من أي وقت مضى.

تحدثت، بداية، عن خمسة عشر صحفيًّا قتلوا هذا العام، هل وقوع هذه الجرائم العنيفة وارد في ألمانيا؟ قبل عام، كنت، في الأغلب، سأجيب على هذا السؤال بالنفي. من يزعمون أنهم منقذو الوطن، وأصحاب نظريات المؤامرة، يصرخون أسبوعيًّا في الشوارع "صحافة الأكاذيب"، يزداد لديَّ منذ الحين الشعور بأن أي صحفي يملك رؤية ناقدة لموقفهم السطحي من العالم سيصير في مرمى الهدف. 

المتطرفون اليمينيون مثال على ذلك؛ إذ قاموا، مع بداية العام، بإرهاب صحفي ناقد الرؤية من خلال نشر نعي كاذب باسمه. إنها تلك الحالات التي تؤدي بانتظام إلى إطلاق صرخات الاستغاثة، وتدفع السياسيين في تصريحاتهم إلى استحضار قيمة حرية الصحافة الثمينة.

لا نعرف في المقابل الكثير عن الصراع الدائر يوميًا في رئاسات التحرير الألمانية حول حرية الصحافة؛ لأن الأمور تجري بشكل غير مباشر: يعمل، في مقابل كل صحفي محترف، أكثر من موظف علاقات عامة. يعمل هؤلاء لصالح أفراد في السياسة والاقتصاد، ويحاولون خلق مساحة لرسائلهم وقضاياهم في الصحافة.

لم تعد القضية متعلقة بالدعاية الخفية، أو التلاعب الأخرق بالآراء، وهي أمور يسهل التعرف عليها. صار مجال العلاقات العامة، في القرون الأخيرة، صفقة مربحة، يجمع الصحفيين المحترفين أيضًا، الذين يعرفون جيدًا الطُعم الذي سيجذب زملاءهم في الصحافة والإذاعة والتلفزيون. ما أريد قوله: صارت المسألة أكثر صعوبة لرئيس تحرير يعمل في مجال الأخبار، ويقع تحت ضغط زمني ومادي، أن يميز نشاط العلاقات العامة الجيد والمطلوب. إنه يأخذ به في أسوأ الظروف، دون التأكد من صحته؛ لأنه الطريق الأسهل والأسرع.   

مع أخذ هذه الخلفية في الاعتبار، أتصور أن كريستوف مارتين فيلاند سيكون، بموقفه هذا، رئيس تحرير جيدًا في القرن الواحد والعشرين. بالحقوق والواجبات التي منحها للكتَّاب في عام ١٧٨٠، كان سيصلح اليوم ليكون خبيرًا محترفًا ومطلوبًا لخلفائه في رئاسات التحرير في الحاضر.

لذلك، أيها الزميل العزيز فيلاند، الكلمة لك.

شكرًا جزيلًا